الفن والثورة: علاقة متشابكة تعكس التمرد والإبداع

 

 

ثمة قاسم مشترك بين الفن والثورة؛ فكلاهما يمثل حالة من التمرد على الثوابت التي استقرت طويلًا في المجتمعات. تأتي الثورة عادة كرد فعل على سلطة مستبدة، أو ظروف اجتماعية وسياسية خانقة؛ فهي تسعى للإطاحة بالمسلمات القديمة، وفتح آفاق جديدة. وبالمثل، يُعتبر الفن وسيلة تعبيرية تمكِّن الأفراد من مواجهة المألوف واستكشاف ما هو جديد ومثير.

لا توجد ثورة إلا وترافقها حركة فنية موازية، تعبِّر عنها، وتستلهم منها. كما أن كل ثورة تترك بصمتها الفنية التي تعكس تطلعاتها وصراعاتها.

 

العشرية الثانية:  تمرد تراكمي
 

بدأ مبارك حكمه في العشرية الثانية بتضييق مساحة الحريات، وتقليص هامش الديمقراطية الذي سبق أن أوصل 17.5% من الإسلاميين ليصبحوا أعضاء في البرلمان، الأمر أزعج مبارك، وأدى في النهاية إلى حل البرلمان عام 1990 بحكم قضائي.

تفرغ مبارك في تلك العشرية للمواجهة مع الحركة الإسلامية عمومًا، التي اتخذت مسارين: مسار العنف مع الجماعة الإسلامية والجهاد، ومسار المحاكمات الاستثنائية، ثم المحاكمات العسكرية لجماعة الإخوان المسلمين.

انسداد المسار الديمقراطي؛ وديكتاتورية النظام؛ أديا إلى ظهور حركة تمرد فنية، حاولت التعبير عن رفضها للواقع الموجود، مما مهد لاحقًا لحالة الغليان التي ازدادت في العشرية الثالثة من حكم مبارك.

سينما متمردة:

وعلى ذلك يمكن اعتبار أن حالة التمرد الفني على الدولة في تلك العشرية تتمثل في اتجاهين لإنتاج الأفلام:

  • أولاً: أفلام تهاجم الدولة ممثلة في أجهزتها،

 وفي الوقت ذاته يهاجم أكبر قطاع معارض وثائر عليها، وهو الحركة الإسلامية عمومًا، حيث وضعها كلها في سلة العنف، وجرّم سعيها للتغيير والوصول للحكم.

من أبرز الأمثلة لذلك فيلم "ضد الحكومة" بطولة أحمد زكي، وإخراج عاطف الطيب. يتناول الفيلم شخصية المحامي الفاسد الذي أفسده انفتاح السادات والفوضى في حكم مبارك، حيث الدولة بلا ملامح أو قيم.يصطدم بحادثة أودت بحياة عدد من الفتيان، وأصابت آخرين؛ من بينهم ابنه، فسعى لمعاقبة المسؤولين، لكنه اصطدم بأدوات الدولة. ويكتشف أن من يعين الدولة على ما هي فيه هو أستاذه، أستاذ القانون الإسلامي (في إشارة إلى تحالف -مفترض- بين أجهزة الدولة والإسلاميين ضد مستقبل مصر). 

 

 

يأتي بعده فيلم "طيور الظلام" ليؤكد على فكرة فساد الدولة ،وعبثية لعبة الانتخابات، ويركز أيضًا على فرضية ثنائية التعاون بين أجهزة الدولة والحركة الإسلامية، عبر وسطاءمثل المحامي الفاسد (فتحي) والمحامي الإخواني (علي). أما النظيف الوحيد في المجموعة فهو زميلهم الثالث الشيوعي (الاشتراكي). وينتهي الفيلم بصراع بين (فتحي) و(علي) داخل المعتقل، في إشارة إلى استمرار الوضع والصراع على السلطة.

 

 

  • ثانيًا أفلام تديرها الدولة وتهاجم أجهزتها، لكنها تُبرئ رأس النظام.

 

تتناول الموجة الثانية التمرد على الدولة من داخلها، مثل فيلمي: "أبو زيد زمانه" و "131 أشغال " ويناقش كلاهما فساد بعض الوزراء، الذين يمارسون الفساد بعيدًا عن رقابة رأس النظام، بالرغم من وجود أجهزة رقابية يمكن اللجوء إليها.

 

مسرح متمرد:

كانت أفلام ومسرحيات تلك الفترة- وبخاصة المسرحيات- أكثر جرأة في التمرد على الدولة. لعب المسرح القومي ومسرح جلال الشرقاوي دورًا بارزًا في هذا المجال، رغم التزامهما بتيمة الخلط بين مساوئ الدولة والحركة الإسلامية، مع افتراض أن الحركة الإسلامية أكثر فسادًا من الدولة القائمة.

على سبيل المثال، مسرحية "المليم بأربعة" التي عرضت سنة 1990 ، وتقاسم بطولتها نور الشريف ونورا، تناولت أزمة شركات توظيف الأموال من وجهة نظر واحدة، ومسرحية "عطية الإرهابية" سنة 1992 التي قام ببطولتها أحمد آدم وحسين الشربيني وسهير البابلي،  تناولت موضوعًا مشابهًا، وكلاهما من إنتاج المسرح الخاص.

 

العشرية الثالثة .. الطريق إلى يناير:


بدايةً من العشرية الثالثة لحكم مبارك، أصبح شبح التوريث يلاحق مخيلة المصريين. كانت النكتة هي السبّاقة في هذا المجال؛ فالنكات التي أُطلقت في أواخر العشرية الثانية وبدايات العشرية الثالثة عن جمال وعلاء مبارك رسّخت لدى المصريين فكرة رفض التوريث. وصل الأمر إلى استخدام الآيات القرآنية والأحكام الفقهية لمواجهة فكرة التوريث. جاءت إحدى النكات في صورة سؤال فقهي: (هل يجوز أن يحكم جمال مبارك مصر؟) وجاء الرد: (حرام قطعًا لقوله تعالى: (وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم).

الإنتاج السينمائي:

 

كثّفت السينما في تلك الفترة المواجهة، فكانت أفلام مثل : "هي فوضى"، الذي تنبأ بقيام الشعب بمواجهة الدولة والتخلص من قبضتها البوليسية، و"عايز حقي"، الذي أعلن فيه صابر، الشاب الفقير العاجز عن إكمال زواجه، أن الحل يكمن في استرداد المال العام من يد الدولة. الدولة، بحسب الفيلم، لا تستطيع إدارته من جهة، ولا تديره بعدالة من جهة أخرى. ومع ذلك، حافظ الفيلم على توازن السخرية بين الدولة والمواطن، فإذا كانت الدولة عاجزة عن إدارة المال العام، فإن المواطن "سفيه" سيبيعه للأعداء. (واضح أن الفيلم كان نبوءة مسبقة لما يحدث الآن).

 

وفي تلك الفترة، جاء فيلما:" ظاظا" و"الديكتاتور" ليمهّدا لاختفاء رأس الحكم من المشهد. ففي (ظاظا) ، يتم عزل الرئيس عبر انتخابات نزيهة تشرف عليها جهات خارجية

 

. أما في(الديكتاتور)، فتثور الجماهير عليه ثورة بلا قائد، ويتم القبض عليه هو وأحد أبنائه من قبل أحد المواطنين. ومع ذلك، يستطيع وزير الدفاع إعادة الأمور إلى نصابها ويعود الديكتاتور إلى الحكم. كلا الفيلمين أشارا إلى عدم وجود أي تغييرات جذرية في الأوضاع؛ فالرئيس المنتخب في(ظاظا) يُقتل في نهاية الفيلم، والديكتاتور المخلوع يعيده وزير دفاعه إلى الحكم في (الديكتاتور) .

 

الملاحظ أن هذا الصراع الفني كان دائراً بين الدولة وكل التيارات باستثناء الكتلة الصلبة للمعارضة، وهي الكتلة الأهم والأقوى والأكثر تأثيرًا، والتي رجحت كفة الثورة حين قامت. أقصد هنا الحركة الإسلامية، التي تلاشى تأثيرها في مجال الفن، بل امتنع تقريبًا، رغم وجود شذرات هنا وهناك لم يكن لها أثر يُذكر.

ثمانية عشر يوما من الفن والثورة

 

 التمرد التراكمي الذي ازدادت وتيرته وازدادت مساراته خلال العشرية الآخيرة من حكم المخلوع ، وظهور محافل حاضنه للفن الموازي لفن الدولة مثل ساقية الصاوي ، وغيرها أدت لظهور فن يحمل ملامح التمرد ، وأشتهر عن طريقها شعراء ،ومطربيين ،وفرق فنية ، وعروض سينمائية مستقلة جذبت قطاعات عديدة من الشباب كل هذا أدى لتكوين نواة حراك الخامس والعشرين من يناير 2011.

 هذا التمرد التراكمي لم يؤدي فقط لتفعيل موجة الحراك وجعلها موجة قابلة للإشتعال ،بل وأنتج فناني الثورة الذين سيملؤن الميدان كأفراد وكفرق ،فمنذ اللحظة الأولى لدخول الميدان ، بدأت تتردد أغاني الشيخ إمام في بؤر وتجمعات ، ومع ظهور المنصات الاذاعية في الميدان بعد الاستقرار يوم 28 يناير بداخله أعتلى الشعراء ،وفرق الغناء ،والمطربين اللذين أشتهروا قبل أعوام قليلة منصات الثورة فكان (ياسر المناوهلي- وفرقة أسكندريلا – وكاريوكي وغيرهم ) .

 

انا رحت انضم فى مرة .. لقلة مندسة

بالتهميش والظلم عمرها ما كانت حاسة

لقيت خلق كتيرة تقول : مصر بناسها

بتاع يجى مليون وبيذيدوا لسه
ياعينى على القلة ... ياليلى على المندسة

 

 

وخلال الأيام الثمانية عشر التي شهدت سقوط النظام، ظهرت أعمال فنية وثائقية وروائية تروي أحداث الثورة وتعبر عن روحها، مثل: "18 يوم"، "نوارة"، و"الشتا اللي فات".

كما شهدت الفرق الموسيقية مثل "اسكندريلا" و"ليل وعين" ازدهارًا خلال وبعد الثورة. أعادت هذه الفرق تقديم التراث الغنائي والشعري لشعراء مثل صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم، مما جعلها صوتًا للشباب وأداة لإحياء التراث الثوري . 

 

الفن بعد الثورة: من الإلهام إلى المواجهة

 

عقب الثورة، بدأت السينما والموسيقى والفنون التشكيلية تشهد نهضة جديدة. فرقة "كاريوكي" قدمت أغاني مثل "يا الميدان"، التي أصبحت رمزًا للصمود في ميدان التحرير. كما اشتهر حمزة نمرة بألبومه "إنسان" الذي عبَّر عن روح الثورة وآمال الشباب.

ياما نفسى أعيش إنسان قلبه على كفه

كل اللى بردانين فى كفوفه يتدفوا

يضحك يضحك خلق الله، يفرح يفرح كله معاه

إنسان جواك وجوايا

إنسان له حلم له غاية

 

                                                                                            

أما في الفنون التشكيلية، فقد أزدهرت مواهب جديدة، لا سيما في "فن الجرافيتي"،  الذي زين جدران القاهرة برسومات خالدة لشهداء الثورة ورسائل الحرية. ومن أبرز المبادرات الفنية كانت مبادرة "مفيش جدران"، التي حولت جدران الخرسانة المسلحة إلى لوحات فنية تعكس رفض غلق الشوارع وترمز إلى التمرد والحرية.

فالثورة لم تكن مجرد نقطة تحول سياسي، بل فتحت الأبواب أمام العمل الفني الجماعي. رسم آلاف الشباب جداريات ضخمة في ميدان التحرير وشوارع مصر، ما جعل الفن التشكيلي أحد أهم الأدوات التعبيرية عن آمال وتطلعات الشعب .

لكن هذا النوع من الفن سرعان ما تمت السيطرة عليه من قبل الأجهزة الأمنية وتوجيهه في إتجاه مواجهة الدولة الناشئة ،وأستغلال الأحداث المفتعلة في الهجوم وترويج الاشاعات على الحكم الذي لم يستقر بعد وتم ملء الحوائط في البداية بشعارات ( لا أمان للعسكر والأخوان ) ، (أخوان كاذبون ) ، وغيرها من الشعارات والرسومات التي حرضت ضد الثورة في صورة الهجوم على الإخوان بإعتبارهم الفصيل الذي وصل للحكم .

الثورة المضادة: السيطرة على الفن

 

مع انقلاب الثالث من يوليو 2013، بدأ النظام الجديد في استخدام الفن كوسيلة دعائية، حيث أُنتِجت أفلام وأعمال درامية

تروج لرؤيته وأهدافه من خلال شركات إنتاج مرتبطة برجال أعمال النظام. وقد عادت موجة قديمة للظهور من جديد، وهي موجة شيطنة الحركة الإسلامية ووصمها بأنها قتلة المتظاهرين، ثم قتلة أبناء الشعب من الجيش، وأنهم قطعان همجية متعطشة للقتل.

بدأت شيطنة الحركة الإسلامية مبكرًا، حتى قبل انقلاب 2013، فمع حلول عام 2012 ظهرت موجة تقول "لا فرق بين الإخوان والدولة، وكل الإسلاميين يسعون لقتل الناس". وقد جاء مسلسل "الهروب" بطولة كريم عبد العزيز وعبد العزيز مخيون ليؤكد على هذه الفكرة، حيث صورت جماعات إسلامية على أنها وراء اقتحام السجون. كما ظهرت موجة أخرى وهي التبشير بالبلطجي الصالح الذي يواجه الإسلاميين الذين يحكمون الدولة، ويقف مع الشعب المقهور، وكان ذلك في مسلسل "طرف ثالث".

 

مع نجاح الانقلاب، توحشت الدولة في تزييف الوعي الجمعي للشعب من خلال الأفلام والمسلسلات التي ركزت على مجموعة من النقاط: "الأزمة الاقتصادية سببها الثورة والإخوان، أزمة سيناء والإرهاب، التعاون المخابراتي الدولي مع الخونة من الإسلاميين، والدولة في مواجهة عنيفة من أجل المستقبل الذي يهدده الكيان الصهيوني بالتعاون مع الخونة الإسلاميين". وفي سبيل تحقيق ذلك، أنتجت الدولة بأموال الشعب عشرات الأفلام والمسلسلات التي كانت تصب كلها في شيطنة كل من يقترب من محاولة إعادة المسار الديمقراطي، باعتباره متواطئًا مع العدو الصهيوني والمخابرات الأمريكية وجماعات التخريب والعنف، مثل: "الخلية"، "كلبش"، "الجزيرة 2"، "الاختيار بجزئيه"، "العمارة"، "هجمة مرتدة".

 

الخاتمة

 

الفن والثورة يشكلان معًا حلقة تكاملية تلهم كل منهما الآخر. بينما تسعى الثورة إلى تغيير الواقع، يقوم الفن بتوثيق هذا التغيير والتعبير عنه، مانحًا الأمل وموسعًا آفاق الحرية والإبداع. ثورة يناير كانت وستظل نموذجًا حيًا على هذه العلاقة المتشابكة التي تعكس قدرة الشعوب على تحويل الحلم إلى واقع والإبداع إلى فعل مقاوم.

المشكلة في جدلية الفن والثورة تكمن في أن العلاقة بينهما تبادلية وتعتمد على معادلة "إذا وإذا فقط". فقد يُستخدم الفن في مواجهة الثورة، وفي هذه الحالة يكون الفن تمردًا ثوريًا أيضًا، أو ثورة مضادة. فقد استخدم العسكر في مصر الفن لمواجهة الثورة والتمرد عليها، مستغلين طبيعة الفنان الثورية وخصومه الظاهري مع الفئة التي مثلت الثورة كقيادة مرحلية في ذلك الوقت.

 

 

 

 

 

 

 

 

شارك برأيك

تعليقات القراء

الاسم
الإيميل
عنوان الموضوع *
التعليق
أرفق ملفات

Max file size (Mb): 10